تابع الإعجاز العلمي في القرأن الكريم

[3]
ولا يتحقق الإعجاز إلا بأمور ثلاثة:

1- التحدي هو طلب المنازلة والمعارضة.
2- وجود المقتضي الذي يدفع المتحدي إلى المنازلة
3- عدم وجود مانع من المباراة.

وإذا أردنا أن نتبين صحة إعجاز القرآن الكريم فلا بد أن نطبق كل شرط من هذه الشروط على القرآن الكريم ليتضح لنا إعجازه بجلاء ووضوح، وبالمحاولة ندرك ما يلي:
1- أن الشرط الأول متحقق وذلك أن القرآن قد دعاهم للتحدي وهو طلب المجيء بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور مثله، ثم أرخى لهم العنان إلى سورة من مثله، ويظهر لنا هذا التحدي في قوله تعالى:
{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ . فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} [ الطور الآية 33- 34]

وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [ هود الآية 13]

وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [ يونس الآية 38]

وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [ البقرة الآية 23 - 24]

فلما ثبت عجزهم إذ لم يأتوا بشيء مما تحداهم به سجل عليهم هذا العجز بقوله تعالى:
{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [ الإسراء الآية 88]

2- أما الشرط الثاني وهو وجود المقتضي للمعارضة، فهو متحقق إذ إن جاءهم بكتاب من عند الله، يسفه به أحلامهم، ويطعن به في عباداتهم ومعتقداتهم، وكان هذا مما يثير غضبهم، لكنهم بدل أن يبطلوا حجته فيأتوا بمثله أو بسورة من مثله، ذهبوا يتهمونه بالشعر والسحر والكهانة والجنون وأن الذي يعلمه بشر، بل قالوا بأنه أضغاث أحلام، وأنه أساطير الأولين... وقد وصف الله حالهم هذا بقوله تعالى:

{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً} [ الفرقان الآية 4] .
{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [ الفرقان الآية 5] .
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [ النحل الآية 103] .
{بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [ الأنبياء الآية 5] . {وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [ الزخرف الآية 30] .
{وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [ الأنعام الآية 91] .
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [ سبأ الآية 43] .
{وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [ القلم الآية 51]
وإليك حادثة تبين هذه الحيرة وهذا القلق، وكيف أنهم حريصون على تشويه الحق والطعن بكل ما أوتوا من كيد وحقد:
" اجتمع الوليد بن المغيرة مع قريش ليتشاوروا بينهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الوليد: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم قولوا أسمع.
قالوا: نقول كاهن!
قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون!
قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
قالوا: فنقول شاعر!
قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر.
فقالوا: نقول ساحر!
قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.
قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس!
قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذقٌ وإن فرعه لجَنَاهُ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرِفَ أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر جاء بقولٍ هو سحرٌ يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.
فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحدٌ إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره، وزينوا له الابتعاد عنه ".

وهكذا اختلف القوم فيما يصفون به محمداً صلى الله عليه وسلم، وهم يدركون أن قولهم هذا اتهام وكذب وافتراء على الحقيقة التي أدركوها، وقد صرّح بها الوليد نفسه حين نفى عن القرآن أن يكون كهانةً أو جنوناً أو شعراً أو سحراً، إنه قد اعترف بالإعجاز القرآني وأنه حق كامل من عند الله تعالى ولكنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وصدق الحق حيث يقول:
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [ النمل الآية 14]

بهذا ندرك أن دوافع المعارضة كانت متوفرة عند القوم بدليل هذه الحيرة وهذا القلق الشديدين، ولكن القوم تركوا المعارضة والتجؤوا لهذه الدعايات المشوهة، ولم يكن لهم من عذر وحجة في ترك المعارضة إلا أن قالوا: { ... قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [ الأنفال الآية 31]

إلا أن هذا الادعاء لم يُسَلّم لهم به، خاصة بعد أن قرعت أسماعهم آيات التحدي، فقال تعالى:

{ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [ هود الآية 14]

3- أما الشرط الثالث وهو عدم وجود مانع من المباراة والمنازلة لأن يأتوا بمثل هذا القرآن، فلم يُعلم بوجود مانع منعهم، ولا وجود صارف صرفهم، ولا حائل حال بينهم وبين هذه المعارضة، فهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، معلوم ذلك من شعرهم ونثرهم، وقد كان القرآن بلسانهم ولغتهم التي عهدوها وبرّزوا فيها، وقد كانت معاني القرآن واضحة لديهم حيث كانوا أهل خبرة وتجارب وذكاء، وقد كان مجال التحدي واسعاً، فلم ينزل القرآن جملة واحدة بل نزل منجما خلال ثلاثٍ وعشرينَ سنةً ليتسع لهم مجال المعارضة.
وبهذا فقد تحققت شروط الإعجاز الثلاثة في القرآن الكريم، إذاً فالإعجاز ثابتٌ للقرآن ثبوتاً قطعياً، وهو واضح وضوح الشمس في رابعةِ النهارِ.

تسلم ايدك